كم سأفتقده وأفتقد
زمن الآباء فى سيرته ، فى مشيته ، فى فى قيامه ، فى قعوده ، فى صوته وهمسه ، فى
بشاشة وجهه ودموع بكائه ... نعم ، كم سأفتقد زمن الآباء فى سيرته :
سأفتقده فى إسبوع الآلام فى كنيسة أنبا تكلا بالإسكندرية ، وقد تفرغ تماما
للصلاة والعبادة وسكن حجرة المعمودية ، وسكنا نحن أولاده الشبان والشمامسة غرفا
أخرى ، وحين أتوا له بخبر إصابة طفله الصغير ( مايكل ) وتورم رأسه إثر سقوطه ،
بتجمع دموى هائل الحجم ، كان هو فى سلام كامل ، ولم يبرح الكنيسة ليطمئن على
الصبى أو يأتى به إلى طبيب ، وبصوت هامس ووجه بشوش كان يردد ( هو فى يد يسوع )
.. .. يا إلهى !! ، هذا ما نقرأه عن الآباء فى كتب التاريخ والتراث ، أما نحن
فلم نقرأه تاريخا ، بل عشناه متجسدا فيه. سأفتقد صورة آبائية من الطراز الأول
وهو ينحنى بالمطانية تلو الأخرى يقدمها لكاهن شريك أثناء القداس الإلهى :
( حاللنى يا أبى ، حاللنى يا أبى ، لقد أدنتك بفكرى أثناء القداس ، حاللنى ) يا
إلهى !! .. هذه صورة نقرأها فى أدبيات الرهبان النساك فى زمن أنطونيوس ومكاريوس
، فهل عادت إلينا حية فى شخصه المبارك ؟ .. ولما لا ، لقد أحب القديس أنطونيوس
معنا ، وسهر معنا ليالى أعياده حتى الصباح نسبح ونصلى المزامير ، وفاجأنا فى
أول سنة لرسامته بترجمة وتجميع رسائل أبى الرهبان وقدمها لنا فى كتيب رائع
لنقرأ فيه ونحن ساهرين ليلة عيده من كل عام .
نعم ، سأفتقد زمن
الآباء فى سيرته :
وهو جالس وسطنا بدير مار مينا بعد أيام من رسامته ، كلنا فرحون بأبينا الكاهن
الجديد مع الآباء الجدد أبونا كيرلس داود وأبونا مقار فوزى ، ومعنا أحد الآباء
المعروفين بمحبته للألحان يداعبه ويطلب منه إن كان قد حفظ " مجمع القداس " ،
فهل لنا أن نسمعه ؟ ، أما أبونا أرسانيوس فكان صامتا صامتا صامتا ، ولما زاد
عليه الإلحاح إنفجر باكيا ..هذه صورة آبائية ما إنمحت من ذاكرتى قط وقد مضى
عليها قرابة أربعين عام ، إنها صورة آبائية من صور أرسانيوس معلم أولاد الملوك
، صورة من لم يندم على صمته قط ، صورة الباكى من القرن الرابع الميلادى .
++++++++++++
نعم يا أبانا ، كم
أفتقد صوتك الحانى وقد إتصلت بى منذ شهور قليلة ، كان إتصالك من النوع الغريب
الذى أصفه بالخاطف السريع ، لم يكن هناك أى موضوع محدد يبرر الإتصال الذى جرى
على النحو التالى :
+ صوتك غالى على يا أبونا أرسانيوس ، إنه يحملنى على أجنحة الزمن إلى أيام حلوة
غالية
ضحك هامسا : + حاللنى يا أبى ، صلى لى يا أبى ...
كنت أكلمه ولا أدرى سر المكالمة فداعبته :
+ مش إحنا أولادك ؟ ، تعالى يا أبونا لتزورنا ، تعالى فرحنا ، إحنا مشتاقين لك
.. ضحك ضحكته الحلوة وهمس مرددا مرات كثيرة :
+ أنا مسافر حته تانيه ، أنا مسافر حته تانيه ، ... صحيح أنا مسافر ...
وهنا أوقفته مقاطعا بدالة البنوة :
+ يا أبونا بطل الكلام ده ، مسافر فين ، بلاش الكلام ده الله يخليك ....
أما هو فكان يكرر القول هامسا ومنهيا الحديث والمكالمة التى ماعرفت سرها فى
حينه !!!
++++++++++++
وبعدها بشهور قليلة
إستقل أبونا أرسانيوس سيارته صبيحة يوم شديد البرودة متجها إلى المطار ، كان
معروفا أن لديه رحلة إلى تورنتو ، ولكنه فاجأنا كلنا أن وجهته كانت إلى هناك ،
إلى مكان آخر ...
أليس غريبا أن يعلن عن إنطلاقه إلى السماء من مكان يسافر الناس منه إلى جهات
عدة ؟
أما هو فكانت وجهته إلى السماء ، وهكذا سافر كما قال ، إلى مكان آخر ...وكم
سأفتقده ... وكم أتمنى ألا أبقى طويلا منتظرا على شاطيء بطمس وأرض الغربة
|