Fr Bisenty Gerges about Fr. Arsanios Aziz

 

فى مثل هذا اليوم من العام الماضى ( 15 يناير 2011 ) رقد فى الرب حبيبنا قدس أبونا أرسانيوس عزيز بمدينة مونتريال – كندا ،


كان الرجل حلوا للحد الذى لا تستطيع معه إلا أن تحبه ، عشنا معه فى كنيسة الأنبا تكلا فجر شبابنا ، وأحلى أيامنا ، وعاد بنا إلى التراث الآبائى الغنى بالروحانية والنسك ، ومع دموعه التى لم تكن تنقطع ، كان وجهه مشرقا بنور الفرح العجيب . عندما علم بسفرى للخدمة فى كندا ، أصر أن يصحبنى إلى الدير الذى أحبة للخلوة بضع أيام وأتبارك بالتقديس على مذبح الأنبا بولا ، فكانت رحلتنا إلى هناك فى 19 أكتوبر 1987 ، وقد غادرت البلاد فى الخامس والعشرين من نفس الشهر . وأمام عين الماء فى بطن الجبل ، كان حديثنا عن عناية الله بنا وماء الروح القدس ، وعلمنى أن الله قادر أن يعزينى بماء الروح حتى من الصخر ، ولو كنت فى بطن الجبل ...
أحبائى ، إن كان من بينكم من يعرفه ، فهذه فرصة أن نطلب صلواته فى ذكراه ، وإن كنت لم تقابله ولم تعرفه ، فهذه فرصة مباركة أن أقدم لكم نموذجا فريدا لكاهن من طراز عجيب :

على شاطيء جزيرة الغربة جلس معلمنا الإنجيلى الرائى على شاطيء جزيرة بطمس وكل مشاعره المرهفة تحدق به إلى السماء. كم طالت به الأيام وتعدت التسعين من السنين ، كلها تعب وجهاد ، كلها غربة ، كلها موحشة وترك لدموعه العنان ماجرت : كم أفتقد صدرك الحانى يا يسوع ، كم كان لى ملجأ أحتمى فيه وأتكيء كم أفتقد جلسة الأحباء من التلاميذ حولك ، نستمع إلى صوتك ونطمئن إلى وعودك ، لقد تذكرتها كلها مع صلاتك من أجلنا وسطرتها يدى فى الإنجيل المقدس ... كم أفتقد وجهك الحلو يايسوع.. وفيما هو يتفكر فى هذا إذا السموات مفتوحة أمامه ، وباب مفتوح يدعوه ليصعد ويدخل فى الروح ويرى الحبيب الذى يفتقده ، بعذب صوته ، بحلو كلامه ، بثقة وعوده ..... بكل جماله وما إنجلت عنه كل النبوات

 

+++++++++++

 

هذه هى مشاعرى وأنا أفتقد الأحباء فى جسدك يايسوع. لقد جمعتنا فيك جسدا واحدا ، لم نعد نرى بعضنا متفرقين أو بعدين عن جسدك الواحد ، هذا ما أعيشه وأنا أتعامل مع آبائى وإخوتى وأهلى وناسى ، هم أنت ، وأنت فيهم
ولهذا إنسابت دموعى وأنا أتلقى الخبر ، حبيبنا أبونا أرسانيوس قد نام ، وهل ستطول بى الأيام لأرى أحبائى يرحلون الواحد تلو الآخر ؟ هل سأحتمل الفراق وبحر الذكريات خلفى يزداد إتساعا ويتعمق عمقا ؟ وإلى متى ؟ .... كم أشتاق إليك يايسوع حتى أراهم فيك ..لقد إنسابت دموعى ولست أظنها ستقترب ، مهما تعاظمت ، من كم ماسكب هو من دموع ، نعم هى ضئيلة جدا بجانب دموعه التى سكبها إستعدادا لهذا اليوم ، وهو اليوم يجمع ثمار الطوبى ، طوبى الباكين الذين يفرحون . دموعى اليوم ليست له ولا عليه ولن تنفعه شيئا ، لقد بكى هو لحساب نفسه ، وما على الآن إلا أن أبحث عن حسابى . نعم ، لهذا أبكى أمام جسده المسجى بيننا بوجه ملاك .. هل يتكرر المثل ، وهل يأتى الزمان بمثله ؟ لست أظن ، فهو واحد من الأمثلة التى لاتتكرر ولا يأتى الزمان بمثلها ، وهل أتى الزمان بمن هو فى مثال أبينا بيشوى كامل ؟ أبدا ..ولهذا فأنا أبكى ونحن نعيش لنرى الأعمدة ترحل ونبقى وحدنا جلوس على شاطيء جزيرة بطمس ، نتطلع إلى السماء علنا نرى بابا مفتوحا ، وهم بالداخل .

 

++++++++++++

 

 

كم سأفتقده وأفتقد زمن الآباء فى سيرته ، فى مشيته ، فى فى قيامه ، فى قعوده ، فى صوته وهمسه ، فى بشاشة وجهه ودموع بكائه ... نعم ، كم سأفتقد زمن الآباء فى سيرته :
سأفتقده فى إسبوع الآلام فى كنيسة أنبا تكلا بالإسكندرية ، وقد تفرغ تماما للصلاة والعبادة وسكن حجرة المعمودية ، وسكنا نحن أولاده الشبان والشمامسة غرفا أخرى ، وحين أتوا له بخبر إصابة طفله الصغير ( مايكل ) وتورم رأسه إثر سقوطه ، بتجمع دموى هائل الحجم ، كان هو فى سلام كامل ، ولم يبرح الكنيسة ليطمئن على الصبى أو يأتى به إلى طبيب ، وبصوت هامس ووجه بشوش كان يردد ( هو فى يد يسوع ) .. .. يا إلهى !! ، هذا ما نقرأه عن الآباء فى كتب التاريخ والتراث ، أما نحن فلم نقرأه تاريخا ، بل عشناه متجسدا فيه. سأفتقد صورة آبائية من الطراز الأول وهو ينحنى بالمطانية تلو الأخرى يقدمها لكاهن شريك أثناء القداس الإلهى :  ( حاللنى يا أبى ، حاللنى يا أبى ، لقد أدنتك بفكرى أثناء القداس ، حاللنى ) يا إلهى !! .. هذه صورة نقرأها فى أدبيات الرهبان النساك فى زمن أنطونيوس ومكاريوس ، فهل عادت إلينا حية فى شخصه المبارك ؟ .. ولما لا ، لقد أحب القديس أنطونيوس معنا ، وسهر معنا ليالى أعياده حتى الصباح نسبح ونصلى المزامير ، وفاجأنا فى أول سنة لرسامته بترجمة وتجميع رسائل أبى الرهبان وقدمها لنا فى كتيب رائع لنقرأ فيه ونحن ساهرين ليلة عيده من كل عام .
 

نعم ، سأفتقد زمن الآباء فى سيرته :
وهو جالس وسطنا بدير مار مينا بعد أيام من رسامته ، كلنا فرحون بأبينا الكاهن الجديد مع الآباء الجدد أبونا كيرلس داود وأبونا مقار فوزى ، ومعنا أحد الآباء المعروفين بمحبته للألحان يداعبه ويطلب منه إن كان قد حفظ " مجمع القداس " ، فهل لنا أن نسمعه ؟ ، أما أبونا أرسانيوس فكان صامتا صامتا صامتا ، ولما زاد عليه الإلحاح إنفجر باكيا ..هذه صورة آبائية ما إنمحت من ذاكرتى قط وقد مضى عليها قرابة أربعين عام ، إنها صورة آبائية من صور أرسانيوس معلم أولاد الملوك ، صورة من لم يندم على صمته قط ، صورة الباكى من القرن الرابع الميلادى .

 

++++++++++++

 

نعم يا أبانا ، كم أفتقد صوتك الحانى وقد إتصلت بى منذ شهور قليلة ، كان إتصالك من النوع الغريب الذى أصفه بالخاطف السريع ، لم يكن هناك أى موضوع محدد يبرر الإتصال الذى جرى على النحو التالى :
+ صوتك غالى على يا أبونا أرسانيوس ، إنه يحملنى على أجنحة الزمن إلى أيام حلوة غالية
ضحك هامسا : + حاللنى يا أبى ، صلى لى يا أبى ...
كنت أكلمه ولا أدرى سر المكالمة فداعبته :
+ مش إحنا أولادك ؟ ، تعالى يا أبونا لتزورنا ، تعالى فرحنا ، إحنا مشتاقين لك .. ضحك ضحكته الحلوة وهمس مرددا مرات كثيرة :
+ أنا مسافر حته تانيه ، أنا مسافر حته تانيه ، ... صحيح أنا مسافر ...
وهنا أوقفته مقاطعا بدالة البنوة :
+ يا أبونا بطل الكلام ده ، مسافر فين ، بلاش الكلام ده الله يخليك ....
أما هو فكان يكرر القول هامسا ومنهيا الحديث والمكالمة التى ماعرفت سرها فى حينه !!!

 

++++++++++++

 

وبعدها بشهور قليلة إستقل أبونا أرسانيوس سيارته صبيحة يوم شديد البرودة متجها إلى المطار ، كان معروفا أن لديه رحلة إلى تورنتو ، ولكنه فاجأنا كلنا أن وجهته كانت إلى هناك ، إلى مكان آخر ...
أليس غريبا أن يعلن عن إنطلاقه إلى السماء من مكان يسافر الناس منه إلى جهات عدة ؟


أما هو فكانت وجهته إلى السماء ، وهكذا سافر كما قال ، إلى مكان آخر ...وكم سأفتقده ... وكم أتمنى ألا أبقى طويلا منتظرا على شاطيء بطمس وأرض الغربة